فهرس المحتويات
انتقل مباشرة إلى القسم المطلوب
0% مقروء
الحمد لله، وبعد:
فإن الخط العربي قد نشأ في بيئةٍ اختلف المؤرخون في تحديد معالمها الأولى، وتباينت آراؤهم في الجهة التي استمد منها العرب حروفهم وصور كتابتهم. فذهب فريق إلى أنه وُضع متأثراً بالهجاء السرياني، كما أشار البلاذري في فتوح البلدان، وذكر أن أصله انتقل من الأنبار إلى الحيرة، ومنها إلى الحجاز عبر طريق دومة الجندل. وقال آخرون إن العرب اقتطعوه من الخط الحميري المسند، ولذلك سُمِّي بالجزم، وهو ما نسبه ابن خلدون في مقدمته إلى العرب الجنوبيين.
غير أن النظر الدقيق في النقوش والدراسات المقارنة يُظهر بطلان القول بانبثاق الخط العربي من المسند أو من فروعه الثمودية واللحيانية، إذ التباين بينهما ظاهر في هيئة الحروف وتركيب الكلمات، فلا يلتقيان في رسمٍ ولا في نسق. وقد استقر رأي الباحثين المحققين على أن الخط العربي فرع متأخر من الخط النبطي، وأن هذا النبطي هو الصورة الأخيرة من تطور الخط الآرامي الذي استعمله الأنباط، وهم قوم من العرب كانت لهم دولةٌ قامت في أطراف الشام وشمال الجزيرة.
نشأت مملكة الأنباط في أرضٍ خصبة عامرة بالمياه والأشجار، بين سلع (البتراء) شمالاً والحِجر (مدائن صالح) جنوباً، فغدت تلك المنطقة مركزاً للتجارة، تمرّ بها القوافل بين اليمن والشام ومصر والبحر الأبيض. وكان لازدهار تجارتهم أثرٌ بالغ في اتصالهم الدائم بالعرب القاطنين في الشمال، ممن اعتادوا المرور ببلادهم ذهاباً وإياباً في رحلات التجارة والحج، حتى ألفوا طباعهم، وتأثروا بلغتهم وأساليبهم، واستعاروا منهم طرائق الكتابة.
وقد كتب الأنباط أول أمرهم بالآرامية، غير أنهم كانوا عرباً في الأصل، ينطقون بلهجةٍ عربيةٍ ويفهمون لسانها، فبدأوا بتصوير الحروف الآرامية وفق ما يناسب ألسنتهم وأدواتهم، ثم طوروها شيئاً فشيئاً حتى انفرد خطهم بسماتٍ خاصة، فابتعد عن الآرامية في رسمه واتجه نحو الاستدارة والاتصال، كما ظهر في نقوشهم منذ القرن الأول قبل الميلاد. وتدل النقوش المكتشفة في الجولان وحوران، مثل نقش الجمال سنة ١٠٦م، ونقش نمارة سنة ٣٢٨م، على أن الخط النبطي سار في طريق التطور حتى قارب الخط العربي الجاهلي في صورته الأولى.
وفي القرن الخامس للميلاد كانت الكتابة النبطية قد بلغت غايتها من التحول، فأوشكت أن تزول لتبعث روحها في الخط العربي، كما يتبين من نقوش زَبَد المؤرخة بسنة ٥١٢م، وهي أقدم ما وُجد من صيغ الكتابة العربية المتصلة بالنبطية اتصالَ تفرّعٍ وتطورٍ لا انقطاعٍ وابتداء.
وعلى هذا، فالأرجح أن عرب الحجاز أخذوا الخط عن الأنباط، وطوّروه بما يناسب لغتهم وأصواتهم، نتيجة لاتصالهم الدائم ببلاد الأنباط في رحلاتهم التجارية والحجية، إذ لم يكن بين الحجاز والشام طريقٌ إلا عبر أرضهم. فكان هذا الامتزاج الحضاري بين العرب الشماليين والأنباط هو السبب المباشر في نشوء الخط العربي، وتحوّله من لهجة نبطية منقوشة إلى كتابةٍ عربيةٍ خالصةٍ، تمثل مرحلة النضج التي بلغها لسان العرب قبل نزول القرآن الكريم.
المصادر والمراجع
المراجع العلمية المستخدمة في هذه الدراسة
-
دراسات في تاريخ الخط العربي
المداخلات العلمية (0)
انضم للمداخلات العلمية
سجل دخولك لتشارك وتضيف مداخلتك الأكاديمية على هذه الدراسة.
تسجيل الدخول للمشاركةلا توجد مداخلات بعد. كن أول من يضيف مداخلة!