حضارة المقر: قصة اكتشافها وكل ما وصلنا عنها حتى الأن - سِفر قيس - سِفر قيس

حضارة المقر: قصة اكتشافها وكل ما وصلنا عنها حتى الأن

حضارة المقر: قصة اكتشافها وكل ما وصلنا عنها حتى الأن

فهرس المحتويات

انتقل مباشرة إلى القسم المطلوب

0% مقروء

الاكتشاف

​في عام 2010، وبين أودية ضيّقة وتلال رملية واطئة في جنوبيّ غرب المملكة العربية السعودية، كان مطلق بن قبلان يرقب حفّارًا آليًا يشقّ به الأرض، ليُنشئ بركة لسقي إبله في أراضي آبائه وأجداده. غير أنّ دوران الشفرة الحديدية انكفأ فجأة على صلابة غريبة؛ إذ اصطدمت بشيء أملس منحوت، يطلّ من بطن الأرض. يقول ابن قبلان متذكّرًا تلك اللحظة:
horse-mutlag-sm
«رأيت حجرًا أملس بارزًا، فعلمت أنّه قديم وعظيم الشأن».
 
كان التمثال مغمورًا في الأرض قائمًا على رأسه، متجهًا نحو السطح. عندئذٍ، صرف سائق الحفارة وأعطاه أجره، ثم بقي وحده أمام ما بدت بوادره لا تُشبه أي اكتشاف عابر.
وما أخرجه ابن قبلان في ذلك اليوم لم يكن أثرٍ حجريّ كسائر ما يُعثر عليه، بل كان تمثالًا ضخمًا 
horse-full-sm

الموقع الجغرافي

يقع موقع المقر — والكلمة في لسان العرب تعني موضع التجمع أو المقرّ الرئيس في العرف القبلي — في منطقة نائية قرب بلدة الغائرة بجنوب غرب المملكة. وما نشهده اليوم من تضاريس هناك ليس سوى أودية متعرّجة تتخللها تلال منخفضة من الحجر الرملي، لكن آثار شلّال قديم قريب من الموقع تشهد بأن المكان كان، في سالف العصور، أكثر عطاءً لمن سكنه..

map
Screenshot 2025-08-15 115946

قبل نحو تسعة آلاف عام، كانت هذه الأرض جزءًا من ما يُعرف بـ الجزيرة العربية الخضراء، وهي الحقبة الرطبة التي أعقبت العصر الجليدي الأخير قرابة 10,000 سنة مضت، واستمرت زهاء خمسة آلاف عام. في تلك الأزمنة، ازدهرت الحياة النباتية والحيوانية على نحوٍ يذكّر بسافانا إفريقيا اليوم، وتشهد على ذلك النقوش الصخرية الموزّعة في أنحاء الجزيرة، والتي تحفظ مشاهد من ذلك العهد الخصيب:

rock_art_saudi_arabia337b
35

الاكتشاف الأثري

بعد عثوره الأول، لم يكتفِ مطلق بن قبلان بترك الأمر للنسيان، فظلّ يعود إلى الموقع في الأعوام التالية، ينقّب بحذر ويستخرج ما أخفاه التراب. وعلى مدى سنوات، جمع أكثر من ثلاثمائة قطعة أثرية من شتى الأشكال والأحجام.
وفي نفس العام، حمّل ما جمعه في سيارته الـجيب وقاد بها إلى الرياض، حيث قدّم المجموعة كاملة هديةً للهيئة العامة للسياحة والآثار. يقول الدكتور علي الغبان، رئيس قطاع الآثار آنذاك، مستعيدًا أول لقاء له بهذه المكتشفات: «عندما وقعت عيناي على القطع لأول مرة، لم أصدق ما أرى... كان الأمر مذهل». ويضيف: «هذه من تحف العصر الحجري الحديث، من مجتمع متقدّم في فنه وصنعته، على نحو لم نعهده من قبل».
وقد أجريت تحاليل الكربون المشع على بقايا عضوية عُثر عليها لاحقًا بجوار بعض القطع، فجاء التأريخ بين 6590 و7250 قبل الميلاد، أي قبل ما يقارب تسعة آلاف سنة من يومنا هذا.

التمثال الرئيس: لغز محفور في الصخر

أبرز ما استوقف ابن قبلان، وأجبره على إيقاف الحفّار في ذلك اليوم، كان تمثالًا حجريًّا ضخمًا، يبلغ طوله ستةً وثمانين سنتيمترًا، وسُمكه ثمانية عشر، فيما يربو وزنه على مئة وخمسة وثلاثين كيلوغرامًا. وقد نُحت التمثال برأس مستدير، ورقبة مقوّسة، وخطمٍ بارز، وفتحات أنف واضحة، وكتفٍ وحارك (أعلى الكتفين)، ونِسَبٍ عامّة تُحاكي على نحو جليّ ملامح حيوان من فصيلة الخيليّات؛ حصانًا، أو حمارًا، أو أَخدَرًا (الحمار الوحشي الآسيوي)، أو لعلّه خليط من هذه الأنواع.
لكن ما يمنح هذا التمثال فرادته الحقيقية علامتان بالغتا الدقّة في النحت:
  1. شريط بارز يمتدّ من الكتف نزولًا حتى القدم الأماميّة.
  2. نقش دقيق محفور حول الخطم بعناية متناهية.
وهنا يثور السؤال المُلِحّ: أكانت هذه العلامات تمثيلًا بدائيًّا للُّجُم التي تُوضَع على الخيول؟ إن صحّ ذلك، فهو يعني أنّ أهل المقر قد عرفوا ترويض الخيل أو أقاربها قبل آلاف السنين من التاريخ الذي يقرّه الباحثون لظهور هذه الممارسة في أي بقعة أخرى من العالم.
al-magar

كنوز أخرى: 

إلى جانب التمثال الرئيس، أسفر تنقيب ابن قبلان عن ما يشبه متحفًا حجريًّا مصغّرًا، احتوى على طيف متنوّع من القطع الأثرية:
التماثيل الحيوانية
نعام، وأغنام، وماعز.
أشكال يُرجَّح أنّها لأسماك وطيور.
تمثال لحيوان بقري شبيه بالبقرة.
تمثال أنيق لكلب يُشبه السلوقي، أحد أقدم سلالات الكلاب المستأنسة المعروفة.
Al-Magar_-_Saluki_Artifact_(المقر_-_سلوقي_-_قطعة_أثرية)

الأدوات المنزلية والحرفية
هاونات ومدقّات.
أحجار طحن الحبوب.
وعاء من الحجر الصابوني، منقوش بزخارف هندسية متقنة.
أوزان يُحتمل أنّها كانت لأعمال النسيج.
أدوات حجرية قد تكون استُعملت في معالجة الجلود.

الأسلحة والأدوات
مكاشط، ورؤوس سهام، وشفرات.
خنجر حجري مزخرف على نحو رائع، منحوت بالشكل المنحني المميّز للخنجر العربي.

صورة_مكاشط_حجرية_من_حضارة_المقر_(8100_قبل_الميلاد)

ماقيل

ماجد خان، المتخصّص في الفن الصخري العربي، والذي أمضى ثلاثة عقود في دراسة النقوش الصخرية بالمملكة، فيقدّر أنّ ثمة أكثر من ألف نقش صخري تصوّر الخيليّات، إمّا حيوانات مصطادة، أو مركوبة، أو مسخّرة للجر . ويرجّح خان أنّ أقدم هذه النقوش يعود إلى العصر الحجري الحديث، مؤكّدًا أنّ «اكتشاف نقوش الخيل في الشويمس قد غيّر رواية وجود الخيل واستئناسها في الجزيرة العربية».
horse-cave

السياق الأثري

في مارس 2010، نظّمت الهيئة العامة للسياحة والآثار زيارة ميدانية للموقع، ضمّت علماء آثار سعوديين ودوليين. وخلال بضع ساعات، جمع الفريق المزيد من الأدوات الحجرية، فضلًا عن تمثال آخر يشبه الحصان. وقد اكتشف مايكل بتراجليا، المتخصّص في آثار العصر الحجري القديم، أفقًا تاريخيًّا أقدم بكثير؛ إذ وجد، إلى جانب مكتشفات العصر الحجري الحديث، أدوات حجرية مشذّبة — مثل المكاشط — يُقدّر عمرها بأكثر من خمسين ألف سنة. ويقول بتراجليا: «كان المقر بيئة جاذبة للنشاط البشري عبر فترات زمنية متعدّدة».
horse-76-sm

مقارنة مع بوتاي

في بوتاي بكازاخستان، حيث تمكّن فيكتور زايبرت من توثيق أقدم دليل مؤكّد على ترويض الخيل (حوالي 3500 ق.م)، كُشف عن أكثر من 300,000 عظمة حصان. وهناك، سجّلت أولسن وزملاؤها دلائل مادية واضحة: آثار تآكل من اللجام على أسنان الفك السفلي، وبقايا حظائر، ومواد تسقيف ممزوجة بروث الخيول، وأدوات لصناعة أحزمة جلدية.
التشابه مع المقر لافت للنظر؛ فكلا الموقعين احتوى على أدوات معالجة الجلود التي يُحتمل أن تكون مرتبطة بصناعة أدوات الخيل، وكلاهما أبان عن مستوى متقدّم من التنظيم الاجتماعي.

الأهمية الحضارية: ما وراء ترويض الحيوان

كان عبدالله الشارخ، أستاذ الآثار بجامعة الملك سعود، من أوائل الخبراء الذين وطئت أقدامهم الموقع. وقد أدهشه الكمّ الهائل من البقايا الحجرية المبعثرة، وما يرافقها من دلائل على نشاط استيطاني وزراعي، فضلًا عن بقايا جدران مبنية على منحدرات التلال المحيطة. ويقول الشارخ: «لم يُكتشف في الجزيرة العربية شيء بهذا الحجم من قبل، والأدلّة الطبقية ستجعل هذا الموقع على الأرجح أهمّ موقع أثري في المملكة».
ويضيف: «في سياقه الإقليمي، فإن اكتشافًا بهذا التنوّع لا بد أن يحمل دلالات عميقة؛ إذ يمكن أن يبوح لنا بأسرار البنية الاجتماعية، وثقافة أهل تلك الديار، وممارسات الاستئناس، وشبكات التجارة والهجرة، وربما حتى طقوسهم المبكرة».

شهادة صامتة

على بُعد خطوات من موقع المقر، تنتشر نقوش صخرية تُظهر النعام، والكلاب، والوعول. إحدى هذه الصور، المحفورة بعمق في الصخر والمكسوّة بطبقة كثيفة من الأكاسيد تراكمت عبر آلاف السنين، تلمّح إلى هيئة فارس يمتطي حيوانًا.
ماجد خان، بخبرته الممتدة، جازم بأنها صورة فارس وحصان، ويُدرجها في العصر الحجري الحديث، جاعلًا إياها قرينة لأقدم الفنون الصخرية التي وثّقها في جُبّة قرب حائل، شمال الجزيرة العربية.
horse-rider

الخاتمة: فجر حضارة جديدة.

يجلس مطلق بن قبلان، وقد أمضى عمره بين القطعان المستأنسة — وفي مقدّمتها نياقه ويقول:
«عندما رأيت القطعة والعلامة الكبيرة عليها، ظننت أول الأمر أنها ثور. لكن وجهها أخبرني أنه حصان. سرّني أنني، على خطى جدي وسلسلة أسلافي، وجدت شيئًا من 
ولعل رمال المقر، في الأعوام المقبلة، تبوح بما تخبّئه من أسرار، وتكشف ما إذا كان أجداد العرب هم حقًا أول من قبض بيده على زمام الخيل، فغيّروا بذلك مسار التاريخ البشري إلى الأبد.

المصادر والمراجع

المراجع العلمية المستخدمة في هذه الدراسة

  1. ماقيل في مجلة ارامكو وهو جل ماجيت به

    الرابط الإلكتروني
  2. ويكيبيديا (صور وموقع)

    الرابط الإلكتروني
  3. ماكتبه وصورة ماجد خان

    الرابط الإلكتروني

المداخلات العلمية (0)

لا توجد مداخلات بعد. كن أول من يضيف مداخلة!