اسم عيسى: كيف محا قلق اليهود واليونان الاسم الحقيقي لولد مريم - سِفر قيس - سِفر قيس

اسم عيسى: كيف محا قلق اليهود واليونان الاسم الحقيقي لولد مريم

اسم عيسى: كيف محا قلق اليهود واليونان الاسم الحقيقي لولد مريم

فهرس المحتويات

انتقل مباشرة إلى القسم المطلوب

0% مقروء

في اسم عيسى عليه السلام

إني نظرت في اختلاف الناس في اسم المسيح ابن مريم عليه السلام، فرأيت النصارى واليهود يقولون: اسمه يشوع، ومعناه عندهم "الخلاص" أو "المُخلص". ثم وقفت على نقش قديم من النقوش الصفائية، يرجع تاريخه إلى (301 إلى 400 ميلادي)، فإذا الاسم فيه عيسى على ما ورد به القرآن.
وتأملت وجوه اللغة، فوجدت أن "عيسى" لا يمكن أن يُرد إلى "يشوع" أو "يسوع" بوجه من وجوه الإبدال، ولا يعرف له أصل في ذلك. وإنما الذي يُحتمل أن يكون، أن أهل العبرانية لمّا سمعوا الاسم الأعجمي الذي لا معنى له في لسانهم أو معناه أقل تعبيرًا، حمّلوه على "يشوع، يسوع" ليكون موافقًا لمذهبهم في أن المسيح هو "المخلّص".
وبعد بحث طويل، صحّ عندي أن الاسم الذي ورد في القرآن هو الأول الأصيل، وهو ما جرى على لسان مريم الأرامية وابنها المسيح، وأن ما سواه إنما هو تأويل وتحوير جرى به أهل كتاب آخر.

في استحالة الاشتقاق وما يوجبه من النظر

وتدبرت ذكر المسيح عليه السلام في القرآن، فإذا هو يرد باسم عيسى خمسًا وعشرين مرة، لا يتغير ولا يتبدل، ولا يُذكر معه غيره، كأنه الاسم الذي لا يُعرف سواه. وقد جرى عليه لسان المسلمين أربعة عشر قرنًا بلا نزاع. وأما أهل الكتاب فيدّعون أن اسمه "يشوع" بالعبرانية، أو "إيسوس" باليونانية.
فأخذت أسأل أهل اللسان، وأتأمل وجوه التصحيف والإبدال، وأراجع ما قاله أئمة العربية والسريانية والعبرانية، فما وجدت طريقًا يَسلك بالاسم من "يشوع" إلى "عيسى". بل كل من نظر من أهل العلم باللغات السامية قال: هذا محال لا يجري في سنن الكلام.

في الاستحالة الصوتية

وبيان ذلك أن التحويل من "يشوع" إلى "عيسى" يقتضي ثلاثة أمور كلها ممتنعة:
  • إحداث حرف العين في أوله: ولا تعرف لغة من لغات الناس أنها تولّد الحروف الحلقية الثقيلة من غير أصل، كما لا يمكن للإنقليزي إذا عرب كلمة أن يُدخل فيها حروف النقر التي في لسان الزنوج.
  • قلب جذر الكلمة رأسًا على عقب: فيكون من ي-ش-ع إلى ع-ي-س، وهذا ليس تصحيفًا ولا إبدالًا، بل هدم للبناء وإعادة له من غير أساس.
  • تحويل عين العبرانية في آخر الاسم إلى ألف طويلة: وهذا يخالف ما عُرف من قوانين التطور الصوتي في لغات الساميين.
فلهذا قال العلماء المحققون: من ظن أن "عيسى" إنما جاء من "يشوع" على سبيل الفساد اللفظي فقد غلط، فإن ذلك لا يعرف في شيء من قوانين الأصوات.

في قلب السؤال

ثم خطر لي أن أعكس المسألة، فقلت: لو أن أهل العبرانية سمعوا اسمًا أعجميًا يقال له "عيسى"، ولا معنى له في لسانهم أو كان معناه أقل تعبيرًا، فهل يمكن أن يحملوه على اسم عندهم معروف، يفسرونه بالخلاص والنجاة مما يوافق صفة المسيح عندهم؟
فرأيت هذا وجهًا معقولًا، وقد جرت به عادة الأمم، فإنهم إذا سمعوا اسمًا غريبًا يشبه بعض ألفاظهم حملوه على ما يعرفون، وزادوا فيه معنى يوافق أهواءهم. وهذا هو المعروف عندهم بالاشتقاق الشعبي والتأويل اللاهوتي.
فصحّ عندي أن الطريق ليس من "يشوع" إلى "عيسى"، بل من "عيسى" إلى "يشوع".

فيما وجد من الأدلة على اسم عيسى

ولم أقف على ما يقوي قولي في أن الاسم الأصيل هو "عيسى" إلا بأدلة أربعة، رأيت أن أوردها ها هنا: نقش صفائي قديم، ولسان المندائيين، وذكر القرآن، وما يدل عليه لهجة أهل الجليل.

النقش الصفائي (من القرن الرابع للميلاد)

أورد أحمد الجلاد وهو من الباحثين في الخطوط القديمة، أنه وجد سنة 2019م في وادي الخضاري نقشًا صفائيًا فيه هذه الكلمات:
"هـ عسىي نصره م كفرك"
وهو كما ترون
عسيى111
وهذا النص لا شك أنه مسيحي، لأن:
  • صيغة الدعاء فيه توافق ما وُجد من صلوات النصارى.
  • ذكر "من كفروك" إشارة إلى معنى عقدي في الإنكار والإيمان.
  • واسم كاتبه "وهب-إيل" أي "وهب الله"، وهو اسم يدل على التنصر.
وقد قرأه الجلاد على هذا الوجه:
لـ وهب بن جايز بن أعبس بن أحبب بن رفأت بن عبط بن خال بن قطط بن ذنبان
ووجم على خاله هـ أشلالي
يا عسي انصره على من كفروك
وهذا النقش مؤرخ بالخط إلى القرن الرابع للميلاد، فهو أقدم شاهد نعرفه على استعمال "عيسى" في الدعاء المسيحي في بلاد العرب.

الموازاة المندائية

ثم نظرت في لسان المندائيين — وهم قوم من أتباع يوحنا المعمدان، لهم ديانة شرقية قديمة، ولا يزالون يحفظون لسانهم المندائي في صلواتهم — فإذا هم يسمون المسيح "ʿ-š-u" (ࡏࡔࡅ). وهم ينطقونه "إيشو" لطول الياء مكان العين، غير أن البنية الأصلية للكلمة هي: عين، ثم صاد، ثم واو. وهي البنية عينها التي نجدها في "عيسى".
وأهمية هذا أن المندائية قديمة محافظة، ولم تدخلها صناعة اليونان ولا مقالة الإسلام. فهي برهان أن الأسماء المبدوءة بالعين كانت موجودة في لهجات الآراميين، وأن "عيسى" لم ينشأ من فراغ.

ذكر القرآن

ثم وجدت القرآن لا يذكر إلا "عيسى"، خمسًا وعشرين مرة، في كل المواضع. لا يقول "يسوع"، ولا "يشوع"، ولا غير ذلك. وهذه الثباتية تدل على أن الاسم كان متداولًا مستقَرًّا، لا أنه من ابتداع القائل.
فإذا ضممنا هذا إلى ما تقدم قلنا:
  • "عيسى" ورد في نقش صفائي بالقرن الرابع.
  • ظل الاسم حيًا ثلاثة قرون حتى جاء به القرآن.
  • جاء في المندائية على مثال البنية نفسها.
  • لم يظهر البتة في اليونانية ولا في السريانية.
  • ولم يتغير مرة واحدة في القرآن كله.
وهذا يبين أن "عيسى" سلسلة متصلة، في حين أن "يشوع" ثم "إيسوس" ثم "جيسوس" إنما هي سلسلة أخرى مبنية على مقالة اليهود واليونان.

ما يُستفاد من لهجة الجليل

ثم التفتُّ إلى ما حُكي في الأناجيل من لهجة أهل الجليل. فقد جاء في إنجيل متّى (26:73) أن الناس عرفوا بطرس من لهجته، وكانوا يسخرون من نطقه. وكان أهل الجليل يضعفون في مخارج الحروف الحلقية، ويغيّرون حركات الأصوات.
ومن الشواهد أن اسم "ألعازر" صار عندهم "لازاروس"، بحذف وتبديل. فإذا كان هذا وقع في أسمائهم، فما الذي يمنع أن يكون "عيسى" من تلك الظاهرة في لهجة الجليل؟

حدود القول

وأنا أعلم أن لا أحد وقف على نص صريح يقول: "كنا نقول عيسى ثم جعلناه يشوع". ولا وُجدت مخطوطة تشرح هذا التحول. ولا استُخرج أصل آرامي كامل يفسر "عيسى" على طريقة الاشتقاق.
لكن الحاجة إلى هذه الأشياء ليست ملزمة. فإن استحالة الاشتقاق من "يشوع" إلى "عيسى"، مع وجود هذه الشواهد من النقش واللغة والقرآن واللهجة، كافية لأن نرجّح أن الاسم الأصيل هو ما جاء به القرآن، لا ما أرادته العبرانية من التأويل اللاهوتي.

فصل: في فرضيّة التأويل اللاهوتي

ولم يثبت عندي أن اسم المسيح تبدّل من "يشوع" إلى "عيسى"، بل الأمر على العكس؛ إنما سُمِع الاسم الجليلي على صورته الأصلية، ثم أولته جماعة أورشليم بما يلائم مقالتهم. وأورد ها هنا ما أراه من المراحل:

المرحلة الأولى: الاسم الأصلي (من نحو ٤ قبل الميلاد إلى ٣٠ ميلادية)

  • كان اسمه في لسان الجليليين الآرامي "عيسى".
  • كان أهله وأصحابه ينادونه به في معيشتهم.
  • لم يكن للاسم عند العبرانيين معنى بيّن، وربما عُدّ عندهم غير مقبول، أو كان معناه لا يُلائم صِفته عندهم.

المرحلة الثانية: لقاء أورشليم (٣٠–٣٣ ميلادية)

  • بلغ خبره إلى اليهود الناطقين بالعبرانية في أورشليم.
  • سمعوا "عيسى"، فرآه بعضهم غريبًا لا معنى له.
  • فحوّلوه سمعًا إلى "يشوع"، لأنه قريب منه صوتًا، وفيه معنى الخلاص: "يهوه يخلّص".
  • وكانوا يرون أن المسيح لا بد أن يكون اسمه ذا دلالة لاهوتية.

المرحلة الثالثة: التدوين اليوناني (٥٠–١٠٠ ميلادية)

  • سأل اليونانيون أتباع أورشليم عن اسمه، فقيل لهم: "يشوع، أي الخلاص".
  • فكتبوه "إيسوس" (Ἰησοῦς).
  • ورُكّز المعنى اللاهوتي في الأناجيل مثل ما جاء في إنجيل متّى (١:٢١): "وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه".
  • وجميع مخطوطاتنا اليونانية جاءت من جماعات بُشّرت على يد أورشليم.
  • ولم يكن لليونان صلة مباشرة بلسان الجليل، فكل ما عندهم هو ما وصلهم بعد "التصحيح".

المرحلة الرابعة: الحفظ العربي (١٠٠–٤٠٠ ميلادية)

  • وصل المبشرون الآراميون إلى بلاد العرب.
  • فنقلوا الاسم كما سمعوه: "عيسى".
  • ولم يكن للعرب نظام عبريّ يصحّح الاسم.
  • فبقي محفوظًا بلا تغيير.

المرحلة الخامسة: التقاليد الموازية (٤٠٠–٧٠٠ ميلادية)

  • في اليونانية والسريانية: "إيسوس/يشوع".
  • في العربية: "عيسى".
  • سار الطريقان معًا حتى نزل القرآن، فأخذ بالرواية العربية الأصلية.

في نمط التأويل اللاهوتي في الكتاب

بنيت على ما جاء عندهم فقلت: وليس هذا الذي ذكرتُه من ابتداع رأي، بل له نظائر كثيرة في الكتاب.
  • إبراهيم: كان اسمه "أبرام"، فجعله الله "إبراهيم"، أي "أب لجمهور". (تكوين ١٧:٥)
  • سارة: كانت "ساراي"، فصارت "سارة" بمعنى "أميرة". (تكوين ١٧:١٥)
  • إسرائيل: كان "يعقوب"، فسمّاه الملك "إسرائيل" أي "صارع الله". (تكوين ٣٢:٢٨)
فالعادة عندهم أن يُبدَّل اسم الرجل إذا كان نبيًّا أو وليًّا إلى ما يحمل معنى يوافق قصته. فكيف بالمسيح المنتظر؟ أيجوز أن يظل اسمه غريبًا بلا دلالة، أو فيه معناه مشكله؟ لا. بل لا بد أن يكون "اسم الخلاص". ولذلك تأولوه إلى "يشوع" أي "المُخلص".
فإذا جمعنا هذا إلى ما تقدم قلنا: الأصل "عيسى"، ثم أولته العبرانية إلى "يشوع"، ومنها جاءت كل روايات اليونان.

فصل: في تفضيل هذه النظريّة على سائر الأقوال

وبعد أن بيّنتُ أصل الاسم ومراحله، وجب أن أذكر ما قيل في غير ذلك وأفصّل وجوه بطلانه أو ضعفه، ثم أبيّن وجه ترجيح القول الذي اخترته.

القول الأوّل: أن "عيسى" تصحيف لـ "يشوع"

قلت: هذا أبعد من أن يُتصوّر، إذ لا لغة تُنشئ همزة العين من غير أصل، ولا تنقلب أصول الكلمة انقلابًا تامًّا من ي-ش-ع إلى ع-ي-س.
فالنتيجة: هذا القول مدفوع بما تقدّم من البرهان الصوتي.

القول الثاني: أن "عيسى" اسم آخر لرجل غير المسيح

قلت: وهذا مردود، إذ قد ثبتت الكتابة الصفائية التي فيها دعاء صريح لعيسى، وفيها إشارات لاهوتية لا تكون إلا في نصّ نصراني.
وزيادةً على ذلك، جاء القرآن يحكي أخبار الإنجيل نفسه وينسبها لعيسى، فلا مجال أن يكون شخصًا آخر.
فالنتيجة: هذا القول متناقض مع الشواهد.

القول الثالث: أن الاسم مأخوذ من الحبشية

قلت: وليس في لسان الأحباش ما يطابق هذه الصورة، ولا قامت بيّنة على أثرٍ حبشيّ في تسمية المسيح عند عرب الجاهلية.
فالنتيجة: هذا ظنّ لا يعضده دليل.

القول الرابع: أن العرب اخترعوا اسمًا جديدًا

قلت: ولماذا يخترعون اسمًا لِمَن كان معروفًا عند الأمم باسم متداول؟ العرب ما كانوا ليبدلوا الأسماء من تلقاء أنفسهم من غير سبب.
فالنتيجة: هذا لا يفسر شيئًا.

قولنا: التأويل اللاهوتي

  • هذا يفسر جميع الشواهد: من النقش الصفائي، إلى اللسان المندائي، إلى ثبات القرآن على صورة واحدة.
  • وهو يوافق سنّة الأسماء في الكتاب: أن تُعطى معنىً لاهوتيًا إذا لم يكن لها معنى واضح.
  • وهو يرفع الإشكال في التحويل المستحيل صوتيًا.
فالنتيجة: هذا أوجز الأقوال وأشدها إحكامًا، يجمع بين البراهين اللغوية والجغرافية والتاريخية.

فصل: في دلالات هذا القول وما يترتّب عليه

وإذا استبانت لنا حقيقة الاسم ومجرى تحوّله، وجب أن نذكر ما يترتّب على ذلك في أبواب الدين واللسان والتاريخ.

أوّلًا: في أمر النصرانية

إذا صحّ ما ذكرناه، فإن "يسوع" (من Ἰησοῦς اليونانية، عن "يشوع") لم يكن الاسم الذي نطق به أهله وأصحابه، بل كان اسمًا مؤوَّلًا أحدثته أورشليم لأجل المعنى اللاهوتي.
فيكون أن صلوات النصارى على مدى ألفي سنة قد جرت على اسمٍ مصطنع، في حين أن القرآن حفظ الاسم الأصلي كما هو.
وهذا يدلّ على أن العهد الجديد باليونانية لم يحفظ ألفاظ المسيح نفسه ولا اسمه، بل أعاد صياغتها بما وافق اللاهوت الأورشليمي.

ثانيًا: في دراسات الإسلام

يثبت هذا أن القرآن حفظ تقليدًا مسيحيًا فلسطينيًا أصيلًا من القرن الأوّل، كان قد ضاع من الكنيسة الكبرى.
وأن محمدًا ﷺ (في أذهان من كذبوا نبوته) تلقّى من أهل الجزيرة خبرًا أقدم وأصدق من الخبر الذي جاء عن طريق الروم واليونان.
بل لعلّ صورة المسيح في القرآن أقرب إلى ملامح المسيحية اليهودية الأولى مما تصوّره الباحثون.

ثالثًا: في اللسانيات التاريخية

  • قد بان أن الأطراف تحفظ ما تضيّعه المراكز؛ فالجزيرة حفظت الاسم كما كان في الجليلية، بينما بدّلته أورشليم وبيزنطة.
  • وأن ضغط اللاهوت قد يغيّر صيغ الأسماء ويعيد تركيبها لتوافق المعنى، حتى لو خالف ذلك قوانين الصوت.
  • وأن ما يثبت في الكتابة (كالنصوص اليونانية) قد يكون محجوبًا عن الأصل الشفهي (كالآرامية الجليلية).

فصل: في دفع الاعتراضات والجواب عنها

وكثير من الناس إذا سمعوا هذا القول اعترضوا عليه بأسئلة، فأجيبهم على ما حضرني.

الاعتراض الأوّل: "أين الدليل المخطوط؟"

قلت: لسنا في حاجة إلى مخطوطات لنثبت الاسم، فإن بين أيدينا:
  • النقش الصفائي الذي يشهد بذكر عيسى في القرن الرابع.
  • ثبات القرآن على الاسم بلا تغيير.
  • الاستحالة الصوتية التي تمنع اشتقاقه من "يشوع".
  • الشاهد المندائي الذي يوازي البنية.
ثم إن غياب المخطوط متوقّع، لأن المسيحية العربية كانت في معظمها شفوية غير مدوّنة.

الاعتراض الثاني: "لماذا لم يستعمل السريان اسم عيسى؟"

قلت: وهذا في الحقيقة شاهد لنا لا علينا. فإن السريان نشأوا في الرها، وهي مدينة هلّنتها الثقافة اليونانية، وفيها:
  • مدارس يونانية تصوغ الألفاظ اللاهوتية.
  • جماعات يهودية قوية بثقافتها العبرية.
  • صلة متينة بكنيسة أورشليم عبر طرق التجارة.
  • مدارس لاهوتية تحتاج إلى أسماء معيارية ومعانٍ ثابتة.
  • ترجمة مبكرة للنصوص اليونانية وفيها "إيسوس/يشوع".
فكان أهل الرها مضطرّين أن يسلكوا مع التيار اللاهوتي المرسوم، فجاءت أسماؤهم مثل "إيشوع" أو "يشوع". وأما البادية العربية، ببعُدها عن هذه المراكز، فقد حفظت الاسم على صورته: "عيسى". فالفرق بين المركز الذي يُعيد الصياغة، والطرف الذي يحفظ، هو عين ما نقول به.

الاعتراض الثالث: "هذا احتجاج بالسكوت"

قلت: بل احتجاج بإيجاب، فإن عندنا:
  • النقش الصفائي.
  • الاستحالة الصوتية.
  • ثبات القرآن.
  • الموازاة المندائية.
وأما سكوت المصادر اليونانية، فلأنه لا يتوقع منها أن تحفظ ما سبق أن "صحّحته".

الاعتراض الرابع: "لعل النقش الصفائي مؤرَّخ خطأ"

قلت: ولو تأخر تأريخه، لبقي قبل الإسلام قطعًا، ولظل شاهدًا على تقليد عربي سامي مستقل عن سيطرة اليونان وأفكار أهل الكتاب يذكر عيسى بهذا الاسم.

الاعتراض الخامس: "لماذا نثق بالقرآن أكثر من الأناجيل؟"

قلت: لسنا في مقام المفاضلة الدينية، بل في البحث التاريخي اللغوي. والواقع أن:
  • القرآن أثبت اسمًا لا يمكن اشتقاقه من "يشوع".
  • هذا الاسم ورد عند مسيحيي العرب قبل الإسلام.
  • القرائن اللغوية تساند حفظ العرب للاسم على حاله، بخلاف ما وقع من إعادة تفسير في أورشليم واليونان.

فصل: في الأصول المنهجيّة لهذا البحث

ولئلا يظنّ ظانّ أن ما مضى من القول إنما هو مجرّد رواية بلا ضابط، أحببت أن أضع الأصول التي عليها بُني هذا النظر.

الأصل الأوّل: استحالة الصوت تُقدَّم على كثرة المخطوطات

فلو اجتمع عندنا ألف ألف نسخة يونانية تكتب "إيسوس"، لم يُبطل ذلك حكم اللسان أن "عيسى" لا يُشتقّ منها بحال. الكثرة لا تغلب الاستحالة.

الأصل الثاني: حفظ الأطراف

التاريخ اللغوي يشهد أن اللهجات الطرفية تحفظ ما تغيّره المراكز. و"عيسى" العربي شاهدٌ من هذا الباب.

الأصل الثالث: ضغط اللاهوت يُحدث التغيير

فإذا كان الاسم عندهم غريبًا أو بلا معنى، ألجأهم إيمانهم إلى أن "يسمعوه" على وجه له دلالة، كما صنعوا في غيره من الأسماء.

الأصل الرابع: الرواية الشفوية قد تحفظ ما تفسده الكتابة

فالقرآن وأهل الجزيرة لم يكن عندهم نصّ مكتوب يُقارنون به، فبقي الاسم كما سمعوه. وأما أهل الكتب اليونانية فقد قاسوا الاسم بما بين أيديهم من تراثهم فأعادوا صياغته.

الأصل الخامس: المراكز تُغيّر، والأطراف تحفظ

وهذا أصل مطّرد في علم اللغة: أن المدن العظمى كأورشليم، أنطاكية، الإسكندرية، رومية — بما فيها من مدارس ولاهوت ومؤسسات — تغيّر وتوحّد وتعيد تفسير الألفاظ. وأما الصحارى والهوامش كجزيرة العرب أو بطائح العراق، فليس عندهم هذا الضغط، فيحفظون اللفظ كما هو. فبقي فيهم "عيسى" شاهدًا على الأصل.

فصل: في التحدّي للباحثين

وقد مضت حجّتنا مفصّلة، فلا بدّ أن نلقي بالسؤال إلى أهل الصنعة:
  • فليبيّنوا لنا بأيّ لسان أو قاعدة يمكن أن يخرج "عيسى" من "يشوع"، مع وجود عين الحلق وتحوّل أصول الكلمة رأسًا.
  • وليفسّروا لنا كيف اجتمع نقش صفائي من القرن الرابع يذكر "عسي" مع قرآن القرن السابع يذكر "عيسى" على صورة واحدة، إن لم يكن بينهما تواصل وحفظ.
  • وليذكروا لنا معنى وجود الصيغة المندائية "عشو" (ʿšu) من غير أن يعترفوا بتعدد صور الاسم الآرامية.
  • وليجيبوا: إن كان العبرانيون أهل أورشليم سمعوا اسمًا غريبًا لا معنى له، أكانوا يتركونه على حاله؟ أم كان اللاهوت يدفعهم دفعًا إلى تأويله بما يوافق معتقدهم في الخلاص؟
ثم نقول لهم وأن قالوا:
  • أين مخطوطاتكم التي تُظهر انقلاب "عيسى" إلى "يشوع"؟ كما تطلبون منّا دليل المخطوط، نطلب منكم مثلَه.
  • وأين أصولكم الآرامية من القرن الأوّل؟ ما عندكم إلا يونانية مترجمة عن عبريّة مؤوَّلة، وأما نحن فبأيدينا شاهد ساميّ صريح. فأيّ الفريقين أقرب إلى المصدر؟
فإن عجزتم عن هذا، كان القول بما ذكرناه أحقّ بالقبول وأقوى بالبرهان.

فصل: في المفارقة الكبرى

قلت: ومن أعجب ما في هذا الباب أن النصارى على مرّ القرون عابوا المسلمين بأنهم "أخطأوا في اسم المسيح". وظنّوا أن "عيسى" فسادٌ وتغيير.
والحقّ، إن صحّ ما قدّمنا، أن المسيحية هي التي بدّلت الاسم، فجعلت الجليلي "عيسى" إلى أورشليمي "يشوع" ذي المعنى اللاهوتي. وأما القرآن، إذ أخذ رواية النصارى الذين لم يكن عندهم عبريّة "تصحّح" الاسم، فقد أبقى على الأصل كما نطقت به مريم عليها السلام.
وليس مرادنا بذلك المفاضلة الدينية، ولكن تقرير العبرة:
  • أن الأطراف قد تحفظ ما تفسده المراكز.
  • وأن الرواية الشفوية قد تبقى على أصالتها حيث تُملي الكتابة "تصحيحًا" متأخّرًا.
  • وأن اللاهوت قد يغلب على الدقّة التاريخية.
  • وأن ما يُتهم بالتحريف قد يكون هو عين الحفظ.

فصول: ما يعنيه هذا لبحوث المسيح

إن صحّ أن اسم المسيح في لسان قومه كان "عيسى"، فإننا نخرج بوجه جديد للمسيح الجليلي:
  • لا هو الـ Ἰησοῦς المهلنن على ألسنة اليونان.
  • ولا هو "يشوع" المؤوَّل لاهوتيًا في مدارس أورشليم.
  • بل هو "عيسى" الجليلي، الخارج من بيئة كان أهل المدينة يسخرون من لهجتها، ويعدّون قومها من "عامة الأرض".
فهذا الاسم، إذ خلا من معنى عبري واضح، صار شاهدًا على أصالته الجليلية. وهو يبرز أن أوّل تفسير لاهوتي لظاهرة المسيح لم يكن في ألوهيته أو فدائه، بل في اسمه نفسه. قبل العقائد وقبل المجامع، كان ثَمّ "لاهوت الاسم"، أي جعل الاسم يقول ما ينبغي أن يقوله.
وهنا يفتح لنا النقش الصفائي وما تبعه من ذكر قرآني نافذةً على تقليد لم تمسّه يد اليونان ولا قلم اللاهوتيين، لا هو أحسن ولا أسوأ، ولكنّه على الأرجح أقدم وأصفى.

فصل: النمط الأوسع

وهذا الذي ذكرناه لا يقوم وحده، بل يدخل في نسقٍ عامّ تشهده الأديان:

المراكز توحّد وتُبدّل، والأطراف تحفظ وتورّث

  • البوذية: بقيت في تايلند شعائر ضاعت من بوذية الهند.
  • اليهودية: حفظت جماعات الفلاشا في أثيوبيا عوائد انقطعت من يهود الربانيين.
  • المسيحية: أبقى عرب البادية على اسم عيسى، بينما غيّره مركز أورشليم إلى "يشوع".

قوة اللا معنى

فإن الاسم الذي لا يفهمه السامع لا يُمسّ، لأنه لا يثير رغبة في تغييره. وما جهل العربُ معناه، حفظوه كما سمعوه، فكان جهلهم هذا عين صيانته.

خداع الكتابة

جرت العادة أن يُظنّ الكتاب أوثق من الرواية الشفوية، غير أنّ الكتابة قد تُقنّن وتؤوّل وتُقوَّم على مقتضى اللاهوت، بينما الشفاه تنقل ما سمعته على حاله. النقش الصفائي صوّر لنا صوتًا من الصحراء، والكتب اليونانية رسمت لنا معنىً من المجامع.

فصل: الاسم وراء الاسم

وحين نُقش "ع س ي" على حجر البازلت في وادي الخُضَري في القرن الرابع، لم يدر واهب-إيل أنه يضع لبنةً تُقلب مسلّمات أربعة عشر قرنًا. ما فعل إلا أن دعا ربّه بالاسم الذي سمعه.
وحين جاء القرآن فذكر "عيسى" وحده، لم يكن يُفسد تقليدًا مسيحيًا، بل كان يحفظ أثرًا سبق أن غيّرته مدارس اليونان.
وحين سمع العبرانيون ذاك الاسم الغريب "عيسى"، فحوّلوه إلى "يشوع"، لم يكذبوا، بل صنعوا ما رأوه واجبًا: أن يكون للمسيح اسم ذو معنى يليق برسالته.
ولا يُدرك وجه الحقيقة إلا بجمع هذه الشذرات معًا: أن المسيح كان جليليًا، يحمل اسمًا لا يحمل معنى مخصوصًا، فحوّله أتباعه إلى "المُخلص"، ولم يبقَ على أصله إلا في تقليد طالما عُدّ عند أهل العلم "ثانويًا" أو "محرّفًا". فإذا المحرَّفُ هو الحافظ، والمركزُ هو المبدِّل، والصحراءُ هي الخزانة.

فصل: التحدّي الأخير

لقد جاهر هذا البحث بدعوى عظيمة: أن الاسم الأول للمسيح لم يكن "يشوع"، بل "عيسى".
وقد بيّنّا:
  • استحالة اشتقاق "عيسى" من "يشوع" صوتيًا وأن العكس مقبول.
  • شهادة النقش الصفائي.
  • ثبات القرآن في استعماله.
  • الموازاة المندائية.
  • سنةُ إعادة التفسير اللاهوتي في الأسماء.
ثم قابلنا الاعتراضات واحدًا واحدًا، وأظهرنا أن قولنا أوضح وأجمع.
فاليوم نلقي القلم في أيدي أهل العلم:
إما أن يُقيموا البرهان على بطلان هذا القول، وإما أن يُذعنوا بأننا منذ ألفي سنة ندعو المسيح بغير اسمه. لا بغيره من باب الخطأ، بل من باب التحويل: اسم جليلي صار أورشليميًا، ولفظ آرامي صار عبرانيًا ذا معنى، وأصل بسيط جُعل محمّلاً بلاهوت الخلاص.

الخِتام: صدى الاسم

فلو قدّر لنا أن نرجع إلى جليل الجليلين سنة خمس وعشرين للميلاد، فهتفنا في السوق: "يا يشوع"، هل كان يلتفت نجّارٌ شاب؟
أم لزم أن نقول: "يا عيسى!" حتى يستدير إلينا؟
هذه ليست مسألة تاريخ وحده، بل مسألة وجود: هل نحتمل أن تكون يقينيّاتنا أُبنيةً من لاهوت، وأن يكون التحريف حفظًا، وأن تكون الحقيقة مخبوءة في موضع لم يخطر لنا أن نفتش فيه؟
النقش الصفائي يهمس بالجواب، والقرآن يشهد به، والدليل اللغوي يفرضه.
ولم يبقَ إلا أن يكون لنا الشجاعة أن ننطق به:
عيسى. الاسم الذي كان، قبل أن يجعله اللاهوت "ما ينبغي أن يكون".

المصادر والمراجع

المراجع العلمية المستخدمة في هذه الدراسة

  1. كتاب احمد الجلاد

    الرابط الإلكتروني
  2. المندائية واسم يسوع (ويكي وتترتب عليه المصادر مما وجدت)

    الرابط الإلكتروني
  3. عن المندائيين وعلاقتهم بيوحنا المعمدان ولغتهم الآرامية الشرقية

    الرابط الإلكتروني
  4. لهجة الجليليين (ويكي وتترتب عليه المصادر مما وجدت)

    الرابط الإلكتروني
  5. المراسلات الصوتية بين اللغات السامية (ويكي وتترتب عليه المصادر مما وجدت)

    الرابط الإلكتروني

التعليقات (1)

أبو عمرو
جزاكم الله خيرا ونفع بعلمكم